الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* الشرح: قوله: (باب من سمع شيئا) زاد أبو ذر فلم يفهمه. قوله: (فراجعه) أي راجع الذي سمعه منه. وللأصيلي فراجع فيه. الحديث: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَا تَسْمَعُ شَيْئًا لَا تَعْرِفُهُ إِلَّا رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ أَوَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا قَالَتْ فَقَالَ إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلِكْ الشرح: قوله: (أن عائشة) ظاهر أوله الإرسال، لأن ابن أبي مليكة تابعي لم يدرك مراجعة عائشة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن تبين وصله بعد في قوله: " قالت عائشة فقلت". قوله: (كانت لا تسمع) أتى بالمضارع استحضارا للصورة الماضية لقوة تحققها. قوله: (إنما ذلك) بكسر الكاف (العرض) أي عرض الناس على الميزان. قوله: (نوقش) بالقاف والمعجمة من المناقشة وأصلها الاستخراج، ومنه نقش الشوكة إذا استخرجها، والمراد هنا المبالغة في الاستيفاء، والمعنى أن تحرير الحساب يفضي إلى استحقاق العذاب، لأن حسنات العبد موقوقة على القبول، وإن لم تقع الرحمة المقتضية للقبول لا يحصل النجاء. قوله في آخره (يهلك) بكسر اللام وإسكان الكاف. وفي الحديث ما كان عند عائشة من الحرص على تقهم معاني الحديث، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتضجر من المراجعة في العلم. وفيه جواز المناظرة، ومقابلة السنة بالكتاب، وتفاوت الناس في الحساب. وفيه أن السؤال عن مثل هذا لم يدخل فيما نهي الصحابة عنه في قوله تعالى: أليس الله يقول: والجامع بين هذه المسائل الثلاث ظهور العموم في الحساب والورود والظلم. فأوضح لهم أن المراد في كل منها أمر خاص. ولم يقع مثل هذا من الصحابة إلا قليلا مع توجه السؤال وظهوره، وذلك لكمال فهمهم ومعرفتهم باللسان العربي، فيحمل ما ورد من ذم من سأل عن المشكلات على من سأل تعنتا كما قال تعالى: وسيأتي باقيه في كتاب الرقاق، وكذا الكلام على انتقاد الدارقطني لإسناده إن شاء الله تعالى. *3* قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (باب ليبلغ العلم) النصب والشاهد بالرفع والغائب منصوب أيضا. والمراد بالشاهد هنا الحاضر، أي ليبلغ من حضر من غاب، لأنه المفعول الأول والعلم المفعول الثاني وإن قدم في الذكر. قوله: (قاله ابن عباس) أي رواه، وليس هو في شيء من طرق حديث ابن عباس بهذه الصورة، وإنما هو في روايته ورواية غيره بحذف العلم، وكأنه أراد بالمعنى لأن المأمور بتبليغه هو العلم. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدٌ هُوَ ابْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فَقُولُوا إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ مَا قَالَ عَمْرٌو قَالَ أَنَا أَعْلَمُ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ الشرح: قوله: (عن أبي شريح) هو الخزاعي الصحابي المشهور، وعمرو بن سعيد هو ابن العاصي بن سعيد بن العاصي بن أمية القرشي الأموي يعرف بالأشدق، وليست له صحبة ولا كان من التابعين بإحسان. قوله: (وهو يبعث البعوث) أي يرسل الجيوش إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير لكونه امتنع من مبايعة يزيد بن معاوية واعتصم بالحرم، وكان عمرو والي يزيد على المدينة، والقصة مشهورة، وملخصها أن معاوية عهد بالخلافة بعده ليزيد بن معاوية، فبايعه الناس إلا الحسين بن علي وابن الزبير، فأما ابن أبي بكر فمات قبل موت معاوية، وأما ابن عمر فبايع ليزيد عقب موت أبيه، وأما الحسين بن علي فسار إلى الكوفة لاستدعائهم إياه ليبايعوه فكان ذلك سبب قتله، وأما ابن الزبير فاعتصم ويسمى عائذ البيت وغلب على أمر مكة، فكان يزيد بن معاوية يأمر أمراءه على المدينة أن يجهزوا إليه الجيوش، فكان آخر ذلك أن أهل المدينة اجتمعوا على خلع يزيد من الخلافة. قوله: (ائذن لي) فيه حسن التلطف في الإنكار على أمراء الجور ليكون أدعى لقبولهم. قوله: (أحدثك) بالجزم لأنه جواب الأمر. قوله: (قام) صفة للقول، والمقول هو حمد الله الخ. قوله: (الغد) النصب أي أنه خطب في اليوم الثاني من فتح مكة. قوله: (سمعته أذناني الخ) أراد أنه بالغ في حفظه والتثبت فيه وأنه لم يأخذه بواسطة. وأتى بالتثنية تأكيدا، والضمير في قوله: " تكلم به " عائد على قوله قولا. قوله: (ولم يحرمها الناس) بالضم أي أن تحريمها كان بوحي من الله لا من اصطلاح الناس، قوله: (يسفك) كسر الفاء وحكي ضمها، وهو صب الدم، والمراد به القتل. قوله: (ولا يعضد) بكسر الضاد المعجمة وفتح الدال أي يقطع بالمعضد وهو آلة كالفأس. قوله: (وإنما أذن لي) أي الله، روي بضم الهمزة. وفي قوله " لي " التفات لأن نسق الكلام وإنما أذن له أي لرسوله. قوله: (ساعة) أي مقدارا من الزمان، والمراد به يوم الفتح. وفي مسند أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن ذلك كان من طلوع الشمس إلى العصر، والمأذون له فيه القتال لا قطع الشجر. قوله: (ما قال عمرو) أي في جوابك. قوله: (لا تعيذ) بضم المثناة أوله وآخره ذال معجمة أي مكة لا تعصم العاصي عن إقامة الحد عليه قوله: (ولا فارا) بالفاء والراء المشددة أي هاربا عليه دم يعتصم بمكة كيلا يقتص منه. قوله: (بخربة) فتح المعجمة وإسكان الراء ثم موحدة يعني السرقة كذا ثبت تفسيرها في رواية المستملي، قال ابن بطال: الخربة بالضم الفساد، وبالفتح السرقة. وقد تشدق عمرو في الجواب وأتى بكلام ظاهره حق لكن أراد به الباطل، فإن الصحابي أنكر عليه نصب الحرب على مكة فأجابه بأنها لا تمنع من إقامة القصاص، وهو صحيح إلا أن ابن الزبير لم يرتكب أمرا يجب عليه فيه شيء من ذلك، وسنذكر مباحث هذا الحديث في كتاب الحج، وما للعلماء فيه من الاختلاف في القتال في الحرم إن شاء الله تعالى. وفي الحديث شرف مكة، وتقديم الحمد والثناء على القول المقصود، وإثبات خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم واستواء المسلمين معه في الحكم إلا ما ثبت تخصيصه به، ووقوع النسخ، وفضل أبي شريح لاتباعه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه وغير ذلك. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ ذُكِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا أَلَا لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ وَكَانَ مُحَمَّدٌ يَقُولُ صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ ذَلِكَ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ مَرَّتَيْنِ الشرح: قوله: (حدثنا حماد) هو ابن زيد. قوله: (عن محمد) هو ابن سيرين (عن ابن أبي بكرة) كذا للمستملي والكشميهني، وسقط عن ابن أبي بكرة للباقين فصار منقطعا لأن محمدا لم يسمع من أبي بكرة. وفي رواية " عن محمد بن أبي بكرة " وهي خطأ وكأن " عن " سقطت منها، وقد تقدم هذا الحديث في أوائل كتاب العلم من طريق أخرى: " عن محمد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه " وهو الصواب، وسيأتي بهذا السند في تفسير سورة براءة بإسقاطه عن بعضهم وسأنبه عليه هناك إن شاء الله تعالى وفيه: " عن ابن أبي بكرة " عند الجميع، ويأتي في بدء الخلق. قوله: (ذكر النبي صلى الله عليه وسلم) فيه اختصار وقد قدمنا توجيهه هناك، وكأنه حدث بحديث ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من كلامه ومن جملته قوله: " فإن دماءكم " الخ. قوله: (قال محمد) هو ابن سيرين. قوله: (أحسبه) أنه شك في قوله: " وأعراضكم " أقالها ابن أبي بكر أم لا، وقد تقدم في أوائل العلم الجزم بها وهي منصوبة بالعطف. قوله: (ألا هل بلغت) هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تكملة الحديث، واعترض قوله: " وكان محمد " إلى قوله: " ذلك " في أثناء الحديث، هذا هو المعتمد فلا يلتفت إلى ما عداه. والعلم عند الله تعالى. *3* الشرح: قوله: (باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم) يس في الأحاديث التي في الباب تصريح بالإثم، وإنما هو مستفاد من الوعيد بالنار على ذلك لأنه لازمه. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي مَنْصُورٌ قَالَ سَمِعْتُ رِبْعِيَّ بْنَ حِرَاشٍ يَقُولُ سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلِجْ النَّارَ الشرح: قوله: (منصور) هو ابن المعتمر الكوفي، وهو تابعي صغير، وربعي بكسر أوله وإسكان الموحدة، وأبوه حراش بكسر المهملة أوله وهو من كبار التابعين. قوله: (سمعت عليا) هو ابن أبي طالب رضي الله عنه. قوله: (لا تكذبوا علي) و عام في كل كاذب، مطلق في كل نوع من الكذب، ومعناه لا تنسبوا الكذب إلي. ولا مفهوم لقوله: " علي " لأنه لا يتصور أن يكذب له لنهيه عن مطلق الكذب. وقد اغتر قوم من الجهلة فوضعوا أحاديث في الترغيب والترهيب وقالوا: نحن لم نكذب عليه بل فعلنا ذلك لتأييد شريعته، وما دروا أن تقويله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل يقتضي الكذب على الله تعالى، لأنه إثبات حكم من الأحكام الشرعية سواء كان في الإيجاب أو الندب، وكذا مقابلهما وهـو الحرام والمكروه. ولا يعتد بمن خالف ذلك من الكرامية حيث جوزوا وضع الكذب في الترغيب والترهيب في تثبيت ما ورد في القرآن والسنة واحتجوا بأنه كذب له لا عليه، وهو جهل باللغة العربية. وتمسك بعضهم بما ورد في بعض طرق الحديث من زيادة لم تثبت وهي ما أخرجه البزار من حديث ابن مسعود بلفظ: " من كذب علي ليضل به الناس " الحديث، وقد اختلف في وصله وإرساله، ورجح الدارقطني والحاكم إرساله، وأخرجه الدارمي من حديث يعلى بن مرة بسند ضعيف، وعلى تقدير ثبوته فليست اللام فيه للعلة بل للصيرورة كما فسر قوله تعالى: قوله: (فليلج النار) جعل الأمر بالولوج مسببا عن الكذب، لأن لازم الأمر الإلزام والإلزام بولوج النار سببه الكذب عليه أو هو بلفظ الأمر ومعناه الخبر، ويؤيده رواية مسلم من طريق غندر عن شعبة بلفظ " من يكذب علي يلج النار " ولابن ماجه من طريق شريك عن منصور قال: " الكذب علي يولج - أي يدخل - النار". الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ إِنِّي لَا أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يُحَدِّثُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ قَالَ أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ الشرح: قوله: (حدثنا أبو الوليد) هو الطيالسي و (جامع بن شداد) كوفي تابعي صغير. وفي الإسناد لطيفتان إحداهما أنه من رواية تابعي عن تابعي يرويه صحابي عن صحابي. ثانيهما أنه من رواية الأبناء عن الآباء بخصوص رواية الأب عن الجد وقد أفردت بالتصنيف. قوله: (قلت للزبير) أي ابن العوام. قوله: (تحدث) حذف مفعولها ليشمل قوله: (كما يحدث فلان وفلان) سمي منهما في رواية ابن ماجه عبد الله بن مسعود. قوله: (أما) بالميم المخففة وهي من حروف التنبيه و (إني) بكسر الهمزة (لم أفارقه) أي لم أفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم زاد الإسماعيلي: " منذ أسلمت " والمراد في الأغلب وإلا فقد هاجر الزبير إلى الحبشة، وكذا لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم في حال هجرته إلى المدينة. وإنما أورد هذا الكلام على سبيل التوجيه للسؤال، لأن لازم الملازمة السماع، ولازمه عادة التحديث، لكن منعه من ذلك ما خشيه من معنى الحديث الذي ذكره، ولهذا أتى بقوله: " لكن " وقد أخرجه الزبير بن بكار في كتاب النسب من وجه آخر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال: " عناني ذلك " يعني قلة رواية الزبير: " فسألته " أي عن ذلك " فقال: يا بني، كان بيني وبينه من القرابة والرحم ما علمت، وعمته أمي، وزوجته خديجة عمتي، وأمه آمنة بنت وهب وجدتي هالة بنت وهيب ابني عبد مناف بن زهرة، وعندي أمك، وأختها عائشة عنده، ولكني سمعته يقول". قوله: (من كذب علي) كذا رواه البخاري ليس فيه " متعمدا " وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق غندر عن شعبة، وكذا في رواية الزبير بن بكار المذكورة، وأخرجه ابن ماجه من طريقه وزاد فيه " متعمدا " وكذا للإسماعيلي من طريق معاذ عن شعبة، والاختلاف فيه على شعبة. وقد أخرجه الدارمي من طريق أخرى عن عبد الله بن الزبير بلفظ: " من حدث عني كذبا " ولم يذكر العمد. وفي تمسك الزبير بهذا الحديث على ما ذهب إليه من اختيار قلة التحديث دليل للأصح في أن الكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه سواء كان عمدا أم خطأ، والمخطئ وإن كان غير مأثوم بالإجماع لكن الزبير خشي من الإكثار أن يقع في الخطأ وهو لا يشعر، لأنه وإن لم يأثم بالخطأ لكن قد يأثم بالإكثار إذ الإكثار مظنة الخطأ، والثقة إذا حدث بالخطأ فحمل عنه وهو لا يشعر أنه خطأ يعمل به على الدوام للوثوق بنقله، فيكون سببا للعمل بما لم يقله الشارع، فمن خشي من إكثار الوقوع في الخطأ لا يؤمن عليه الإثم إذا تعمد الإكثار، فمن ثم توقف الزبير وغيره من الصحابة عن الإكثار من التحديث. وأما من أكثر منهم فمحمول على أنهم كانوا واثقين من أنفسهم بالتثبت، أو طالت أعمارهم فاحتيج إلى ما عندهم فسئلوا فلم يمكنهم الكتمان. رضي الله عنهم. قوله: (فليتبوأ) أي فليتخذ لنفسه منزلا، يقال تبوأ الرجل المكان إذا اتخذه سكنا، وهو أمر بمعنى الخبر أيضا، أو بمعنى التهديد، أو بمعنى التهكم، أو دعاء على فاعل ذلك أي بوأه الله ذلك. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون الأمر على حقيقته، والمعنى من كذب فليأمر نفسه بالتبوء ويلزم عليه كذا، قال: وأولها أولاها، فقد رواه أحمد بإسناد صحيح عن ابن عمر بلفظ " بني له بيت في النار " قال الطيبي: فيه إشارة إلى معنى القصد في الذنب وجزائه، أي كما أنه قصد في الكذب التعمد فليقصد بجزائه التبوء. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ أَنَسٌ إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ الشرح: قوله: (حدثنا أبو معمر) و البصري المقعد، وعبد الوارث هو ابن سعيد، وعبد العزيز هو ابن صهيب. والإسناد كله بصريون. قوله: (حديثا) المراد به جنس الحديث، ولهذا وصفه بالكثرة. قوله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم) هو وما بعده في محل الرفع لأنه فاعل يمنعني، وإنما خشي أنس مما خشي منه الزبير، ولهذا صرح بلفظ الإكثار لأنه مظنة، ومن حام حول الحمى لا يأمن وقوعه فيه، فكان التقليل منهم للاحتراز، ومع ذلك فأنس من المكثرين لأنه تأخرت وفاته فاحتيج إليه كما قدمناه ولم يمكنه الكتمان. ويجمع بأنه لو حدث بجميع ما عنده لكان أضعاف ما حدث به. ووقع في رواية عتاب - بمهملة ومثناة فوقانية - مولى هرمز، سمعت أنسا يقول: " لولا أني أخشى أن أخطئ لحدثتك بأشياء قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم " الحديث أخرجه أحمد بإسناد، فأشار إلى أنه لا يحدث إلا ما تحققه ويترك ما يشك فيه. وحمله بعضهم على أنه كان يحافظ على الرواية باللفظ فأشار إلى ذلك بقوله: " لولا أن أخطئ". وفيه نظر، والمعروف عن أنس جواز الرواية بالمعنى كما أخرجه الخطيب عنه صريحا، وقد وجد في رواياته ذلك كالحديث في البسملة، وفي قصة تكثير الماء عند الوضوء، وفي قصة تكثير الطعام. قوله: (كذبا) هو نكرة في سياق الشرط فيعم جميع أنواع الكذب. الحديث: حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ الشرح: قوله: (حدثنا المكي) هو اسم وليس بنسب كما تقدم: وهو من كبار شيوخ البخاري، سمع من سبعة عشر نفسا من التابعين منهم يزيد بن أبي عبيد المذكور هنا، وهو مولى سلمة بن الأكوع صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث أول ثلاثي وقع في البخاري، وليس فيه أعلى من الثلاثيات، وقد أفردت فبلغت أكثر من عشرين حديثا. قوله: (من يقل) أصله يقول وإنما جزم بالشرط. قوله: (ما لم أقل) أي شيئا لم أقله فحذف العائد وهو جائز وذكر القول لأنه الأكثر وحكم الفعل كذلك لاشتراكهما في علة الامتناع وقد دخل الفعل في عموم حديث الزبير وأنس السابقين لتعبيرهما بلفظ الكذب عليه ومثلهما حديث أبي هريرة الذي ذكره بعد حديث سلمة فلا فرق في ذلك بين أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وفعل كذا إذا لم يكن قاله أو فعله، وقد تمسك بظاهر هذا اللفظ من منع الرواية بالمعنى. وأجاب المجيزون عنه بأن المراد النهي عن الإتيان بلفظ يوجب تغير الحكم مع أن الإتيان باللفظ لا شك في أولويته. والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَسَمَّوْا بِاسْمِي وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي وَمَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ الشرح: قوله: (حدثنا موسى) هو ابن إسماعيل التبوذكي. قوله: (عن أبي حصين) هو بمهملتين مفتوح الأول، وأبو صالح هو ذكوان السمان. وقد ذكر المؤلف هذا الحديث بتمامه في كتاب الأدب من هذا الوجه، ويأتي الكلام عليه فيه إن شاء الله تعالى. وقد اقتصر مسلم في روايته له على الجملة الأخيرة وهي مقصود الباب، وإنما ساقه المؤلف بتمامه ولم يختصره كعادته لينبه على أن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم يستوي فيه اليقظة والمنام. والله سبحانه وتعالى أعلم. فإن قيل: الكذب معصية إلا ما استثني في الإصلاح وغيره، والمعاصي قد توعد عليها بالنار، فما الذي امتاز به الكاذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوعيد على من كذب على غيره؟ فالجواب عنه من وجهين: أحدهما أن الكذب عليه يكفر متعمده عند بعض أهل العلم، وهو الشيخ أبو محمد الجويني، لكن ضعفه ابنه إمام الحرمين ومن بعده، ومال ابن المنير إلى اختياره، ووجهه بأن الكاذب عليه في تحليل حرام مثلا لا ينفك عن استحلال ذلك الحرام أو الحمل على استحلاله، واستحلال الحرام كفر، والحمل على الكفر كفر. وفيما قاله نظر لا يخفى، والجمهور على أنه لا يكفر إلا إذا اعتقد حل ذلك. الجواب الثاني أن الكذب عليه كبيرة والكذب على غيره صغيرة فافترقا، ولا يلزم من استواء الوعيد في حق من كذب عليه أو كذب على غيره أن يكون مقرهما واحدا أو طول إقامتهما سواء، فقد دل قوله صلى الله عليه وسلم: " فليتبوأ " على طول الإقامة فيها، بل ظاهره أنه لا يخرج منها لأنه لم يجعل له منزلا غيره، إلا أن الأدلة القطعية قامت على أن خلود التأبيد مختص بالكافرين، وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الكذب عليه وبين الكذب على غيره كما سيأتي في الجنائز في حديث المغيرة حيث يقول " إن كذبا علي ليس ككذب على أحد " وسنذكر مباحثه هناك إن شاء الله تعالى، ونذكر فيه الاختلاف في توبة من تعمد الكذب عليه هل تقبل أو لا. (تنبيه) : رتب المصنف أحاديث الباب ترتيبا حسنا لأنه بدأ بحديث علي وفيه مقصود الباب، وثنى بحديث الزبير الدال على توقي الصحابة وتحرزهم من الكذب عليه، وثلث بحديث أنس الدال على أن امتناعهم إنما كان من الإكثار المفضي إلى الخطأ لا عن أصل التحديث، لأنهم مأمورون بالتبليغ، وختم بحديث أبي هريرة الذي فيه الإشارة إلى استواء تحريم الكذب عليه سواء كانت دعوى السماع منه في اليقظة أو في المنام. وقد أخرج البخاري حديث: " من كذب علي " أيضا من حديث المغيرة وهو في الجنائز، ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وهو في أخبار بني إسرائيل، ومن حديث واثلة بن الأسقع وهو في مناقب قريش، لكن ليس هو بلفظ الوعيد بالنار صريحا. واتفق مسلم معه على تخريج حديث علي وأنس وأبي هريرة والمغيرة، وأخرجه مسلم من حديث أبي سعيد أيضا، وصح أيضا في غير الصحيحين من حديث عثمان بن عفان وابن مسعود وابن عمر وأبي قتادة وجابر وزيد بن أرقم، وورد بأسانيد حسان من حديث طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد وأبي عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص ومعاذ بن جبل وعقبة بن عامر وعمران بن حصين وابن عباس وسلمان الفارسي ومعاوية بن أبي سفيان ورافع بن خديج وطارق الأشجعي والسائب بن يزيد وخالد بن عرفطة وأبي أمامة وأبي قرضافة وأبي موسى الغافقي وعائشة، فهؤلاء [ثلاثة و] ثلاثون نفسا من الصحابة، وورد أيضا عن نحو خمسين غيرهم بأسانيد ضعيفة، وعن نحو من عشرين آخرين بأسانيد ساقطة. وقد اعتنى جماعة من الحفاظ بجمع طرقه، فأول من وقفت على كلامه في ذلك علي بن المديني، وتبعه يعقوب بن شيبة فقال: روي هذا الحديث من عشرين وجها عن الصحابة من الحجازيين وغيرهم، ثم إبراهيم الحربي وأبو بكر البزار فقال كل منهما: إنه ورد من حديث أربعين من الصحابة، وجمع طرقه في ذلك العصر أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد فزاد قليلا. وقال أبو بكر الصحابي شارح رسالة الشافعي: رواه ستون نفسا من الصحابة، وجمع طرقه الطبراني فزاد قليلا. وقال أبو القاسم بن منده رواه أكثر من ثمانين نفسا، وقد خرجها بعض النيسابوريين فزادت قليلا، وقد جمع طرقه ابن الجوزي في مقدمة كتاب " الموضوعات " فجاوز التسعين، وبذلك جزم ابن دحية. وقال أبو موسى المديني: يرويه نحو مائة من الصحابة، وقد جمعها بعده الحافظان يوسف بن خليل وأبو علي البكري وهما متعاصران فوقع لكل منهما ما ليس عند الأخر، وتحصل من مجموع ذلك كله رواية مائة من الصحابة على ما فصلته من صحيح وحسن وضعيف وساقط، مع أن فيها ما هو في مطلق ذم الكذب عليه من غير تقييد بهذا الوعيد الخاص. ونقل النووي أنه جاء عن مائتين من الصحابة، ولأجل كثرة طرقه أطلق عليه جماعة أنه متواتر، ونازع بعض مشايخنا في ذلك قال: لأن شرط التواتر استواء طرفيه وما بينهما في الكثرة، وليست موجودة في كل طريق منها بمفردها. وأجيب بأن المراد بإطلاق كونه متواترا رواية المجموع عن المجموع من ابتدائه إلى انتهائه في كل عصر، وهذا كاف في إفادة العلم. وأيضا فطريق أنس وحدها قد رواها عنه العدد الكثير وتواترت عنهم. نعم وحديث علي رواه عنه ستة من مشاهير التابعين وثقاتهم، وكذا حديث ابن مسعود وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو، فلو قيل في كل منها إنه متواتر عن صحابيه لكان صحيحا، فإن العدد المعين لا يشترط في المتواتر، بل ما أفاد العلم كفى، والصفات العلية في الرواة تقوم مقام العدد أو تزيد عليه كما قررته في نكت علوم الحديث وفي شرح نخبة الفكر، وبينت هناك الرد على من ادعى أن مثال المتواتر لا يوجد إلا في هذا الحديث، وبينت أن أمثلته كثيرة: منها حديث من بنى لله مسجدا، والمسح على الخفين، ورفع اليدين، والشفاعة والحوض ورؤية الله في الآخرة، والأئمة من قريش وغير ذلك. والله المستعان. وأما ما نقله البيهقي عن الحاكم ووافقه أنه جاء من رواية العشرة المشهورة، قال: وليس في الدنيا حديث أجمع العشرة على روايته غيره، فقد تعقبه غير واحد، لكن الطرق عنهم موجودة فيما جمعه ابن الجوزي ومن بعده، والثابت منها ما قدمت ذكره. فمن الصحاح علي والزبير، ومن الحسان طلحة وسعد وسعيد وأبو عبيدة، ومن الضعيف المتماسك طريق عثمان، وبقيتها ضعيف وساقط. الشرح: قوله: (باب كتابة العلم) طريقة البخاري في الأحكام التي يقع فيها الاختلاف أن لا يجزم فيها بشيء يل يوردها على الاحتمال. وهذه الترجمة من ذلك، لأن السلف اختلفوا في ذلك عملا وتركا، وإن كان الأمر استقر والإجماع انعقد على جواز كتابة العلم، بل على استحبابه، بل لا يبعد وجوبه على من خشي النسيان ممن يتعين عليه تبليغ العلم. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ قُلْتُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ قَالَ لَا إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ قَالَ قُلْتُ فَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ قَالَ الْعَقْلُ وَفَكَاكُ الْأَسِيرِ وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ الشرح: قوله: (حدثنا ابن سلام) كذا للأصيلي، واسمه محمد، وقد صرح به أبو داود وغيره. قوله: (عن سفيان) و الثوري، لأن وكيعا مشهور بالرواية عنه. وقال أبو مسعود الدمشقي في الأطراف. يقال إنه ابن عيينة. قلت: لو كان ابن عيينة لنسبه لأن القاعدة في كل من روى عن متفقي الاسم أن يحمل من أهمل نسبته على من يكون له به خصوصية من إكثار ونحوه كما قدمناه قبل هذا، وهكذا نقول هنا لأن وكيعا قليل الرواية عن ابن عيينة بخلاف الثوري. قوله: (عن مطرف) هو بفتح الطاء المهملة وكسر الراء ابن طريف بطاء مهملة أيضا. قوله: (عن الشعبي) وللمصنف في الديات سمعت الشعبي. قوله: (عن أبي جحيفة) هو وهب السوائي، وقد صرح بذلك الإسماعيلي في روايته، وللمصنف في الديات: سمعت أبا جحيفة. والإسناد كله كوفيون إلا شيخ البخاري وقد دخل الكوفة، وهو من رواية صحابي عن صحابي. قوله: (قلت لعلي) هو ابن أبي طالب رضي الله عنه. قوله: (هل عندكم) الخطاب لعلي، والجمع إما لإرادته مع بقية أهل البيت أو للتعظيم. قوله: (كتاب) أي مكتوب أخذتموه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أوحي إليه، ويدل على ذلك رواية المصنف في الجهاد: " هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله " وله في الديات " هل عندكم شيء مما ليس في القرآن " وفي مسند إسحاق بن راهويه عن جرير عن مطرف: " هل علمت شيئا من الوحي " وإنما سأله أبو جحيفة عن ذلك لأن جماعة من الشيعة كانوا يزعمون أن عند أهل البيت - لا سيما عليا - أشياء من الوحي خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بها لم يطلع غيرهم عليها. وقد سأل عليا عن هذه المسألة أيضا قيس بن عباد - وهو بضم المهملة وتخفيف الموحدة - والأشتر النخعي وحديثهما في مسند النسائي. قوله: (قال لا) زاد المصنف في الجهاد " لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة". قوله: (إلا كتاب الله) هو بالرفع. وقال ابن المنير: فيه دليل على أنه كان عنده أشياء مكتوبة من الفقه المستنبط من كتاب الله، وهي المراد بقوله: أو فهم أعطيه رجل " لأنه ذكر بالرفع، فلو كان الاستثناء من غير الجنس لكان منصوبا. كذا قال، والظاهر أن الاستثناء فيه منقطع، والمراد بذكر الفهم إثبات إمكان الزيادة على ما في الكتاب. وقد رواه المصنف في الديات بلفظ: " ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فهما يعطى رجل من الكتاب " فالاستثناء الأول مفرغ والثاني منقطع، معناه لكن إن أعطى الله رجلا فهما في كتابه فهو يقدر على الاستنباط فتحصل عنده الزيادة بذلك الاعتبار. وقد روى أحمد بإسناد حسن من طريق طارق بن شهاب قال: شهدت عليا على المنبر وهو يقول: " والله ما عندنا كتاب نقرأه عليكم إلا كتاب الله وهذه الصحيفة " وهو يؤيد ما قلناه أنه لم يرد بالفهم شيئا مكتوبا. قوله: (الصحيفة) أي الورقة المكتوبة. وللنسائي من طريق الأشتر " فأخرج كتابا من قراب سيفه". قوله: (العقل) أي الدية، وإنما سميت به لأنهم كانوا يعطون فيها الإبل ويربطونها بفناء دار المقتول بالعقال وهو الحبل. ووقع في رواية ابن ماجه بدل العقل " الديات " والمراد أحكامها ومقاديرها وأصنافها. قوله: (وفكاك) بكسر الفاء وفتحها. وقال الفراء الفتح أفصح، والمعنى أن فيها حكم تخليص الأسير من يد العدو والترغيب في ذلك. قوله: (ولا يقتل) بضم اللام، وللكشميهني: " وأن لا يقتل " بفتح اللام، وعطفت الجملة على المفرد لأن التقدير فيها أي الصحيفة حكم العقل وحكم تحريم قتل المسلم بالكافر، وسيأتي الكلام على مسألة قتل المسلم بالكافر في كتاب القصاص والديات إن شاء الله تعالى. ووقع للمصنف ومسلم من طريق يزيد التيمي عن علي قال: " ما عندنا شيء نقرأه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة. فإذا فيها: المدينة حرم. " الحديث. ولمسلم عن أبي الطفيل عن علي: " ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يعم به الناس كافة إلا ما في قراب سيفي هذا. وأخرج صحيفة مكتوبة فيها: لعن الله من ذبح لغير الله. " الحديث. وللنسائي من طريق الأشتر وغيره عن علي: " فإذا فيها: المؤمنون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم. . " الحديث. ولأحمد من طريق طارق بن شهاب: " فيها فرائض الصدقة " والجمع بين هذه الأحاديث أن الصحيفة كانت واحدة وكان جميع ذلك مكتوبا فيها، فنقل كل واحد من الرواية عنه ما حفظه والله أعلم. وقد بين ذلك قتادة في روايته لهذا الحديث عن أبي حسان عن علي، وبين أيضا السبب في سؤالهم لعلي رضي الله عنه عن ذلك أخرجه أحمد والبيهقي في الدلائل من طريق أبي حسان أن عليا كان يأمر بالأمر فيقال: قد فعلناه. فيقول: صدق الله ورسوله. فقال له الأشتر: هذا الذي تقول أهو شيء عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة دون الناس؟ فذكره بطوله. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ بِقَتِيلٍ مِنْهُمْ قَتَلُوهُ فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَخَطَبَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْقَتْلَ أَوْ الْفِيلَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ كَذَا قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ وَاجْعَلُوهُ عَلَى الشَّكِّ الْفِيلَ أَوْ الْقَتْلَ وَغَيْرُهُ يَقُولُ الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ أَلَا وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدِي أَلَا وَإِنَّهَا حَلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ أَلَا وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ لَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا تُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ فَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُعْقَلَ وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ أَهْلُ الْقَتِيلِ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ اكْتُبُوا لِأَبِي فُلَانٍ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا الْإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا الْإِذْخِرَ إِلَّا الْإِذْخِرَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ يُقَالُ يُقَادُ بِالْقَافِ فَقِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَيُّ شَيْءٍ كَتَبَ لَهُ قَالَ كَتَبَ لَهُ هَذِهِ الْخُطْبَةَ الشرح: قوله: (حدثنا شيبان) هو ابن عبد الرحمن يكنى أبا معاوية، وهو بفتح الشين المعجمة بعدها تحتانية ثم موحدة، وليس في البخاري بهذه الصورة غيره. قوله: (عن يحيى) هو ابن أبي كثير. قوله: (عن أبي سلمة) في رواية المصنف في الديات: " حدثنا أبو سلمة حدثنا أبو هريرة". قوله: (أن خزاعة) أي القبيلة المشهورة، والمراد واحد منهم فأطلق عليه اسم القبيلة مجازا، واسم هذا القاتل خراش بن أمية الخزاعي، والمقتول في الجاهلية منهم اسمه أحمر، والمقتول في الإسلام من بني ليث لم يسم. قوله: (حبس) أي منع عن مكة. (القتل) أي بالقاف والمثناة من فوق (أو الفيل) أي بالفاء المكسورة بعدها ياء تحتانية. قوله: (كذا قال أبو نعيم) أراد البخاري أن الشك فيه من شيخه. قوله: (وغيره يقول: الفيل) أي بالفاء ولا يشك، والمراد بالغير من رواه عن شيبان رفيقا لأبي نعيم وهو عبيد الله بن موسى، ومن رواه عن يحيى رفيقا لشيبان وهو حرب بن شداد كما سيأتي بيانه عند المصنف في الديات، والمراد بحبس الفيل أهل الفيل وأشار بذلك إلى القصة المشهورة للحبشة في غزوهم مكة ومعهم الفيل فمنعها الله منهم وسلط عليهم الطير الأبابيل مع كون أهل مكة إذ ذاك كانوا كفارا، فحرمة أهلها بعد الإسلام آكد، لكن غزو النبي صلى الله عليه وسلم إياها مخصوص به على ظاهر هذا الحديث وغيره، وسيأتي الكلام على المسألة في كتاب الحج مفصلا إن شاء تعالى. قوله: (وسلط عليهم) هو بضم أوله، ورسول مرفوع والمؤمنون معطوف عليه. قوله: (ولا تحل) للكشميهني: " ولم تحل " وللمصنف في اللقطة من طريق الأوزاعي عن يحيى: " ولن " وهي أليق بالمستقبل. قوله: (لا يختلى) بالخاء المعجمة أي لا يحصد يقال اختليته إذا قطعته وذكر الشوك دال على منع قطع غيره من باب أولى، وسيأتي ذكر الخلاف فيه في الحج إن شاء الله تعالى. قوله: (إلا لمنشد) أي معرف، وسيأتي الكلام على هذه المسألة في كتاب اللقطة إن شاء الله تعالى. قوله: (فمن قتل فهو بخير النظرين) كذا وقع هنا، وفيه حذف وقع بيانه في رواية المصنف في الديات عن أبي نعيم بهذا الإسناد: " فمن قتل له قتيل". قوله: (وإما أن يقاد) هو بالقاف أي يقتص، ووقع في رواية لمسلم " إما أن يفادى " بالفاء وزيادة ياء بعد الدال، والصواب أن الرواية على وجهين: من قالها بالقاف قال فيما قبلها: " إما أن يعقل " من العقل وهو الدية، ومن قالها بالفاء قال فيما قبلها: " إما أن يقتل " بالقاف والمثناة. والحاصل تفسير " النظرين " بالقصاص أو الدية. وفي المسألة بحث يأتي في الديات إن شاء الله تعالى. قوله: (فجاء رجل من أهل اليمن) هو أبو شاه بهاء منونة، وسيأتي في اللقطة مسمى، والإشارة إلى من حرفه، وهناك من الزيادة عن الوليد بن مسلم: " قلت للأوزاعي: ما قوله: اكتبوا لي؟ قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم " قلت: وبهذا تظهر مطابقة هذا الحديث للترجمة. قوله: (فقال رجل من قريش) هو العباس بن عبد المطلب كما يأتي في اللقطة، ووقع في رواية لابن أبي شيبة: " فقال رجل من قريش يقال له شاه " وهو غلط. قوله: (إلا الإذخر) كذا هو في روايتنا بالنصب، ويجوز رفعه على البدل مما قبله. قوله: (إلا الإذخر إلا الإذخر) كذا هو في روايتنا، والثانية على سبيل التأكيد. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ أَخْبَرَنِي وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ عَنْ أَخِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ تَابَعَهُ مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الشرح: قوله: (حدثنا عمرو) هو ابن دينار المكي. قوله: (عن أخيه) هو همام بن منبه بتشديد الموحدة المكسورة وكان أكبر منه سنا لكن تأخرت وفاته عن وهب، وفي الإسناد ثلاثة من التابعين من طبقة متقاربة أولهم عمرو. قوله: (فإنه كان يكتب ولا أكتب) هذا استدلال من أبي هريرة على ما ذكره من أكثرية ما عند عبد الله بن عمرو أي ابن العاص على ما عنده، ويستفاد من ذلك أن أبا هريرة كان جازما بأنه ليس في الصحابة أكثر حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم منه إلا عبد الله، مع أن الموجود المروي عن عبد الله بن عمرو أقل من الموجود المروي عن أبي هريرة بأضعاف مضاعفة، فإن قلنا الاستثناء منقطع فلا إشكال، إذ التقدير: لكن الذي كان من عبد الله وهو الكتابة لم يكن مني، سواء لزم منه كونه أكثر حديثا لما تقتضيه العادة أم لا. وإن قلنا الاستثناء متصل فالسبب فيه من جهات: أحدها أن عبد الله كان مشتغلا بالعبادة أكثر من اشتغاله بالتعليم فقلت الرواية عنه. ثانيها أنه كان أكثر مقامه بعد فتوح الأمصار بمصر أو بالطائف ولم تكن الرحلة إليهما ممن يطلب العلم كالرحلة إلى المدينة، وكان أبو هريرة متصديا فيها للفتوى والتحديث إلى أن مات، ويظهر هذا من كثرة من حمل عن أبي هريرة، فقد ذكر البخاري أنه روى عنه ثمانمائة نفس من التابعين، ولم يقع هذا لغيره. ثالثها ما اختص به أبو هريرة من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له بأن لا ينسى ما يحدثه به كما سنذكره قريبا. رابعها أن عبد الله كان قد ظفر في الشام بحمل جمل من كتب أهل الكتاب فكان ينظر فيها ويحدث منها فتجنب الأخذ عنه لذلك كثير من أئمة التابعين. والله أعلم. (تنبيه) : قوله: (ولا أكتب) قد يعارضه ما أخرجه ابن وهب من طريق الحسن بن عمرو بن أمية قال: تحدث عند أبي هريرة بحديث، فأخذ بيدي إلى بيته فأرانا كتبا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هذا هو مكتوب عندي. قال ابن عبد البر: حديث همام أصح، ويمكن الجمع بأنه لم يكن يكتب في العهد النبوي ثم كتب بعده. قلت: وأقوى من ذلك أنه لا يلزم من وجود الحديث مكتوبا عنه أن يكون بخطه، وقد ثبت أنه لم يكن يكتب، فتعين أن المكتوب عنده بغير خطه. قوله: (تابعه معمر) أي ابن راشد يعني تابع وهب بن منبه في روايته لهذا الحديث عن همام، والمتابعة المذكورة أخرجها عبد الرزاق عن معمر، وأخرجها أبو بكر بن علي المروزي في كتاب العلم له عن حجاج بن الشاعر عنه، وروى أحمد والبيهقي في المدخل من طريق عمرو بن شعيب عن مجاهد والمغيرة بن حكيم قالا: سمعنا أبا هريرة يقول: " ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب بيده ويعي بقلبه، وكنت أعي ولا أكتب، استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتاب عنه فأذن له " إسناده حسن. وله طريق أخرى أخرجها العقيلي في ترجمة عبد الرحمن بن سلمان عن عقيل عن المغيرة بن حكيم سمع أبا هريرة قال: " ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب، استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب بيده ما سمع منه فأذن له " الحديث. وعند أحمد وأبي داود من طريق يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو: " كنت أكتب كل شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهتني قريش " الحديث. وفيه: " اكتب، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا الحق " ولهذا طرق أخرى عن عبد الله بن عمرو يقوي بعضها بعضا. ولا يلزم منه أن يكونا في الوعي سواء لما قدمناه من اختصاص أبي هريرة بالدعاء بعدم النسيان، ويحتمل أن يقال تحمل أكثرية عبد الله بن عمرو على ما فاز به عبد الله من الكتابة قبل الدعاء لأبي هريرة لأنه قال في حديثه: " فما نسيت شيئا بعد " فجاز أن يدخل عليه النسيان فيما سمعه قبل الدعاء، بخلاف عبد الله فإن الذي سمعه مضبوط بالكتابة، والذي انتشر عن أبي هريرة مع ذلك أضعاف ما انتشر عن عبد الله بن عمرو لتصدي أبي هريرة لذلك ومقامه بالمدينة النبوية، بخلاف عبد الله بن عمرو في الأمرين. ويستفاد منه ومن حديث علي المتقدم ومن قصة أبي شاه أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في كتابة الحديث عنه، وهو يعارض حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن " رواه مسلم. والجمع بينهما أن النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره، والإذن في غير ذلك. أو أن النهي خاص بكتابة غير القرآن مع القرآن في شيء واحد والإذن في تفريقهما، أو النهي متقدم والإذن ناسخ له عند الأمن من الالتباس وهو أقربها مع أنه لا ينافيها. وقيل النهي خاص بمن خشي منه الاتكال على الكتابة دون الحفظ، والإذن لمن أمن منه ذلك، ومنهم من أعل حديث أبي سعيد وقال: الصواب وقفه على أبي سعيد، قاله البخاري وغيره. قال العلماء. كره جماعة من الصحابة والتابعين كتابة الحديث واستحبوا أن يؤخذ عنهم حفظا كما أخذوا حفظا، لكن لما قصرت الهمم وخشي الأئمة ضياع العلم دونوه. وأول من دون الحديث ابن شهاب الزهري على رأس المائة بأمر عمر بن عبد العزيز، ثم كثر التدوين ثم التصنيف، وحصل بذلك خير كثير. فلله الحمد. الحديث: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ قَالَ ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ قَالَ عُمَرُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَبَهُ الْوَجَعُ وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللَّهِ حَسْبُنَا فَاخْتَلَفُوا وَكَثُرَ اللَّغَطُ قَالَ قُومُوا عَنِّي وَلَا يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ كِتَابِهِ الشرح: قوله: (أخبرني يونس) هو ابن يزيد. قوله: (عن عبيد الله بن عبد الله) أي ابن عتبة بن مسعود. قوله: (لما اشتد) أي قوي. قوله: (وجعه) أي في مرض موته كما سيأتي. وللمصنف في المغازي وللإسماعيلي: " لما حضرت النبي صلى الله عليه وسلم الوفاة " وللمصنف من حديث سعيد بن جبير أن ذلك كان يوم الخميس وهو قبل موته صلى الله عليه وسلم بأربعة أيام. قوله: (بكتاب) أي بأدوات الكتاب، ففيه مجاز الحذف. وقد صرح بذلك في رواية لمسلم قال: " ائتوني بالكتف والدواة " والمراد بالكتف عظم الكتف لأنهما كانوا يكتبون فيها. قوله: (أكتب) هو بإسكان الباء جواب الأمر، ويجوز الرفع على الاستئناف، وفيه مجاز أيضا أي آمر بالكتابة. ويحتمل أن يكون على ظاهره كما سيأتي البحث في المسألة في كتاب الصلح إن شاء الله تعالى. وفي مسند أحمد من حديث علي أنه المأمور بذلك ولفظه " أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن آتيه بطبق - أي كتف - يكتب ما لا تضل أمته من بعده". قوله: (كتابا) بعد قوله: " بكتاب " فيه الجناس التام بين الكلمتين، وإن كانت إحداهما بالحقيقة والأخرى بالمجاز. قوله: (لا تضلوا) هو نفي وحذفت النون في الروايات التي اتصلت لنا لأنه بدل من جواب الأمر، وتعدد جواب الأمر من غير حرف العطف جائز. قوله: (غلبه الوجع) أي فيشق عليه إملاء الكتاب أو مباشرة الكتابة، وكأن عمر رضي الله عنه فهم من ذلك أنه يقتضي التطويل، قال القرطبي وغيره: ائتوني أمر، وكان حق المأمور أن يبادر للامتثال، لكن ظهر لعمر رضي الله عنه مع طائفة أنه ليس على الوجوب، وأنه من باب الإرشاد إلى الأصلح فكرهوا أن يكلفوه من ذلك ما يشق عليه في تلك الحالة مع استحضارهم قوله تعالى: وظهر لطائفة أخرى أن الأولى أن يكتب لما فيه من امتثال أمره وما يتضمنه من زيادة الإيضاح، ودل أمره لهما بالقيام على أن أمره الأول كان على الاختيار، ولهذا عاش صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أياما ولم يعاود أمرهم بذلك، ولو كان واجبا لم يتركه لاختلافهم لأنه لم يترك التبليغ لمخالفة من خالف، وقد كان الصحابة يراجعونه في بعض الأمور ما لم يجز بالأمر، فإذا عزم امتثلوا. وسيأتي بسط ذلك في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى. وقد عد هذا من موافقة عمر رضي الله عنه. واختلف في المراد بالكتاب، فقيل: كأن أراد أن يكتب كتابا ينص فيه على الأحكام ليرتفع الاختلاف، وقيل: بل أراد أن ينص على أسامي الخلفاء بعده حتى لا يقع بينهم الاختلاف، قاله سفيان بن عيينة. ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم قال في أوائل مرضه وهو عند عائشة: " ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " أخرجه مسلم. وللمصنف معناه، ومع ذلك فلم يكتب، والأول أظهر لقول عمر: كتاب الله حسبنا. أي كافينا. مع أنه يشمل الوجه الثاني لأنه بعض أفراده. والله أعلم. (فائدة) : قال الخطابي: إنما ذهب عمر إلى أنه لو نص بما يزيل الخلاف لبطلت فضيلة العلماء وعدم الاجتهاد. وتعقبه ابن الجوزي بأنه لو نص على شيء أو أشياء لم يبطل الاجتهاد لأن الحوادث لا يمكن حصرها. قال: وإنما خاف عمر أن يكون ما يكتبه في حالة غلبة المرض فيجد بذلك المنافقون سبيلا إلى الطعن في ذلك المكتوب، وسيأتي ما يؤيده في أواخر المغازي. قوله: (ولا ينبغي عندي التنازع) فيه إشعار بأن الأولى كان المبادرة إلى امتثال الأمر، وإن كان ما اختاره عمر صوابا إذ لم يتدارك ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بعد كما قدمناه. قال القرطبي: واختلافهم في ذلك كاختلافهم في قوله لهم: " لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة " فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا، وتمسك آخرون بظاهر الأمر فلم يصلوا، فما عنف أحدا منهم من أجل الاجتهاد المسوغ والمقصد الصالح. والله أعلم. قوله: (فخرج ابن عباس يقول) ظاهره أن ابن عباس كان معهم، وأنه في تلك الحالة خرج قائلا هذه المقالة. وليس الأمر في الواقع على ما يقتضيه هذا الظاهر، بل قول ابن عباس المذكور إنما كان يقوله عندما يحدث بهذا الحديث، ففي رواية معمر عند المصنف في الاعتصام وغيره: قال عبيد الله فكان ابن عباس يقول. وكذا لأحمد من طريق جرير بن حازم عن يونس بن يزيد. وجزم ابن تيمية في الرد على الرافضي بما قلته، وكل من الأحاديث يأتي بسط القول فيه في مكانه اللائق به، إلا حديث عبد الله بن عمر فهو عمدة الباب. ووجه رواية حديث الباب أن ابن عباس لما حدث عبيد الله بهذا الحديث خرج من المكان الذي كان به وهو يقول ذلك. ويدل عليه رواية أبي نعيم في المستخرج قال عبيد الله: فسمعت ابن عباس يقول الخ. وإنما تعين حمله على غير ظاهره لأن عبيد الله تابعي من الطبقة الثانية لم يدرك القصة في وقتها لأنه ولد بعد النبي صلى الله عليه وسلم بمدة طويلة، ثم سمعها من ابن عباس بعد ذلك بمدة أخرى. والله أعلم. قوله: (الرزيئة) هي بفتح الراء وكسر الزاي بعدها ياء ثم همزة، وقد تسهل الهمزة وتشدد الياء، ومعناها المصيبة، وزاد في رواية معمر " لاختلافهم ولغطهم " أي أن الاختلاف كان سببا لترك كتابة الكتاب. وفي الحديث دليل على جواز كتابة العلم، وعلى أن الاختلاف قد يكون سببا في حرمان الخير كما وقع في قصة الرجلين اللذين تخاصما فرفع تعيين ليلة القدر بسبب ذلك. وفيه وقوع الاجتهاد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه فيه، وسنذكر بقية ما يتعلق به في أواخر السيرة النبوية من كتاب المغازي إن شاء الله تعالى. (تنبيه) : قدم حديث علي أنه كتب عن النبي صلى الله عليه وسلم ويطرقه احتمال أن يكون إنما كتب ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبلغه النهي، وثنى بحديث أبي هريرة وفيه الأمر بالكتابة وهو بعد النهي فيكون ناسخا، وثلث بحديث عبد الله بن عمرو وقد بينت أن في بعض طرقه إذن النبي صلى الله عليه وسلم له في ذلك، فهو أقوى في الاستدلال للجواز من الأمر أن يكتبوا لأبي شاه لاحتمال اختصاص ذلك بمن يكون أميا أو أعمى، وختم بحديث ابن عباس الدال على أنه صلى الله عليه وسلم هم أن يكتب لأمته كتابا يحصل معه الأمن من الاختلاف وهو لا يهم إلا بحق. *3* الشرح: قوله: (باب العلم) أي تعليم العلم بالليل، والعظة تقدم أنها الوعظ، وأراد المصنف التنبيه على أن النهي عن الحديث بعد العشاء مخصوص بما لا يكون في الخير. الحديث: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ هِنْدٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَعَمْرٍو وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ هِنْدٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنْ الْفِتَنِ وَمَاذَا فُتِحَ مِنْ الْخَزَائِنِ أَيْقِظُوا صَوَاحِبَاتِ الْحُجَرِ فَرُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الْآخِرَةِ الشرح: قوله: (صدقة) هو ابن الفضل المروزي. قوله: (عن هند) هي بنت الحارث الفراسية بكسر الفاء والسين المهملة. وفي رواية الكشميهني بدلها عن امرأة. قوله: (وعمرو) كذا في روايتنا بالرفع، ويجوز الكسر، والمعنى أن ابن عيينة حدثهم عن معمر ثم قال: وعمرو هو ابن دينار، فعلى رواية الكسر يكون معطوفا على معمر، وعلى رواية الرفع يكون استئنافا كأن ابن عيينة حدث بحذف صيغة الأداء وقد جرت عادته بذلك. وقد روى الحميدي هذا الحديث في مسنده عن ابن عيينة قال: حدثنا معمر عن الزهري، قال: وحدثنا عمرو ويحيى بن سعيد عن الزهري، فصرح بالتحديث عن الثلاثة. قوله: (ويحيى بن سعيد) هو الأنصاري، وأخطأ من قال إنه هو القطان لأنه لم يسمع من الزهري ولا لقيه. ووقع في غير رواية عن أبي ذر " عن امرأة " بدل قوله عن هند في الإسناد الثاني. والحاصل أن الزهري كان ربما أبهمها وربما سماها. وقد رواه مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن الزهري ولم يذكر هندا ولا أم سلمة. قوله: (سبحان الله ماذا) ما استفهامية متضمنة لمعنى التعجب والتعظيم، وعبر عن الرحمة بالخزائن كقوله تعالى: قال الكرماني: ويحتمل أن تكون ما نكرة موصوفة. قوله: (أنزل) بضم الهمزة، وللكشميهني " أنزل الله " بإظهار الفاعل، والمراد بالإنزال إعلام الملائكة بالأمر المقدور، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم أوحي إليه في نومه ذاك بما سيقع بعده من الفتن فعبر عنه بالإنزال. قوله: (وماذا فتح من الخزائن) قال الداودي: الثاني هو الأول، والشيء قد يعطف على نفسه تأكيدا، لأن ما يفتح من الخزائن يكون سببا للفتنة، وكأنه فهم أن المراد بالخزائن خزائن فارس والروم وغيرهما مما فتح على الصحابة، لكن المغايرة بين الخزائن والفتن أوضح لأنهما غير متلازمين، وكم من نائل من تلك الخزائن سالم من الفتن. قوله: (صواحب الحجر) بضم الحاء وفتح الجيم جمع حجرة وهي منازل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما خصهن بالإيقاظ لأنهن الحاضرات حينئذ، أو من باب " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول". قوله: (فرب كاسية) استدل به ابن مالك على أن رب في الغالب للتكثير، لأن هذا الوصف للنساء وهن أكثر أهل النار انتهى. وهذا يدل لورودها في التكثير لا لأكثريتها فيه. قوله: (عارية) بتخفيف الياء وهي مجرورة في أكثر الروايات على النعت، قال السهيلي: إنه الأحسن عند سيبويه، لأن رب عنده حرف جر يلزم صدر الكلام، قال: ويجوز الرفع على إضمار مبتدأ والجملة في موضع النعت، أي هي عارية والفعل الذي تتعلق به رب محذوف. انتهى. وأشار صلى الله عليه وسلم بذلك إلى موجب إيقاظ أزواجه، أي ينبغي لهن أن لا يتغافلن عن العبادة ويعتمدن على كونهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحديث جواز قول: " سبحان الله " عند التعجب، وندبية ذكر الله بعد الاستيقاظ، وإيقاظ الرجل أهله بالليل للعبادة لا سيما عند آية تحدث. وسيأتي بقية الكلام على هذا الحديث في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى. وفي هذا الإسناد رواية الأقران في موضعين: أحدهما ابن عيينة عن معمر، والثاني عمرو ويحيى عن الزهري وفيه رواية ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض في نسق. وهند قد قيل إنها صحابية فإن صح فهو من رواية تابعي عن مثله عن صحابية عن مثلها، وأم سلمة هي أم المؤمنين، وكانت تلك الليلة ليلتها. وفي الحديث استحباب الإسراع إلى الصلاة عند خشية الشر كما قال تعالى: وفيه التسبيح عند رؤية الأشياء المهولة، وفيه تحذير العالم من يأخذ عنه من كل شيء يتوقع حصوله، والإرشاد إلى ما يدفع ذلك المحذور. والله أعلم.
|